الاثنين، 28 يوليو 2014


أحمد المسلمانى يكتب: نظرية «اللامبالاة» فى العلاقات الدولية

       ٢٨/ ٧/ ٢٠١٤
حين بدأَتْ أحداث الثورات العربية، كانت هناك أصوات خافتة تقول إنها «مؤامرة».. بدأت تلك الأصوات ترتفع تدريجيًا مع تدهور «الربيع» إلى «خريف».. ومن الصوت الهامس إلى الصوت الزاعق كان أنصار المؤامرة يتحدثون ويؤكدون.
(١)
كانت ثورة ٢٥ يناير مصرية خالصة.. وكان يوم مجدها الحضارى يوم أن قام الثوار بتنظيف ميدان التحرير وإخلاء ساحات التظاهر والعودة السلمية والحضارية إلى حياتهم الطبيعية بعد إسقاط النظام.
لكن مشهدًا آخر جاء ليغطى على مشهد تنظيف الميدان.. إنه مشهد «استعراضات التطرف» التى سماها الإعلام «جمعة قندهار».. حيث جرى اختطاف الثورة فى أقل من ستين دقيقة.. عبر خطبة استعلائية ألقاها الشيخ «يوسف القرضاوى».
لقد مثّلت «جمعة قندهار» بداية الاختراق من الخارج والاختطاف من الداخل.. كانت بداية تحوّل بعض القوى السياسية من «المظاهرات» إلى «السفارات»، ومن «الوطنية» إلى «التبعية».
ولقد عرضتُ فى كتابى «خريف الثورة» تحليلاً مطولاً أضفتُ فيه «مفهوم اللامبالاة» إلى جوار «مفهوم المؤامرة».
(٢)
يمكن للبعض أن يرتِّب الأحداث على نحو يقود إلى أن المؤامرة كانت حاصلة منذ اللحظة الأولى.. بل ما قبلها.
يميل أنصار «نظرية المؤامرة» إلى «تركيب» الأحداث فى ليبيا على النحو التالى:
فى يوم جمعة الغضب المصرية ٢٨ يناير ٢٠١١ أنشأ الناشط الليبى «حسن الجهمى» صفحة على موقع التواصل الاجتماعى «فيس بوك» تدعو إلى إطلاق الثورة فى ١٧ فبراير.. وهو ما حدث بالضبط. فى ١٤ فبراير ٢٠١١ صدر بيان من (٢١٣) شخصية تطالب بتنحى «معمر القذافى» عن السلطة. وفى يوم ١٥ فبراير قامت «الجماعة الإسلامية الليبية المقاتلة» التى تعتنق منهج تنظيم القاعدة بتغيير اسمها إلى «الحركة الإسلامية للتغيير» قبل يومين فقط من بدء الثورة.. استعدادًا للدور القادم.
وقد بدا الأمر وكأن هناك ترتيبا خاصا للمتشددين الإسلاميين فى مستقبل ليبيا قبل اندلاع الثورة. فقد كان الإسلاميون مستعدين للمشهد على نحو يثير الشكوك. ثم إن تحوّل الثورة إلى حرب أهلية وهجوم عسكرى من حلف شمال الأطلنطى (الناتو) قد أدى فى نهاية المطاف إلى تدمير كل القدرات العسكرية للدولة الليبية، وإطلاق سوق السلاح والجريمة فى ربوع البلاد.. وهو ما دعا منظمة «هيومان رايتس ووتش» إلى القول: «إنه يجب على الأمم المتحدة أن تتدخل لحماية المدنيين».
إذن.. فإن «صفحة فيس بوك» و«توقيع شخصيات» و«تغيير اسم الجماعة المقاتلة» و«قصف الناتو» و«تدمير الدولة الليبية» و«طلب التدخل الدولى فى ليبيا بحجة حماية المدنيين».. هى سلسلة فى المؤامرة!
(٣)
وتميل - أيضًا - «نظرية المؤامرة» إلى تفسير الأحداث فى تونس على النحو التالى:
«محمد البوعزيزى».. «أيقونة» الثورة التونسية جرى تقديمه على غير الحقيقة، فقد خالف القانون، وكانت مصادرة عربته إجراءً قانونيًا سليمًا. واتهام الشرطية «فايدة حمدى» بصفعه لم يكن صحيحًا.. ووقفها عن العمل كان قرارًا ظالمًا جرى اتخاذه دون محاكمة، ولما جرت محاكمتها بعد شهرين من الثورة حصلت على البراءة.. وأقرّت أنها لم تعتد عليه، وأنها صادرَت عربته بموجب محضر رسمى.
وتمضى النظرية.. إن ثمة اتفاقا مسبقا بين حركة النهضة الإخوانية والولايات المتحدة.. حيث سافر الشيخ «راشد الغنوشى» إلى واشنطن عقب فوز حركة النهضة مباشرة.. وهى الزيارة التى وصفها الكاتب السعودى «عبدالرحمن الراشد» بأنها «زيارة طمأنة».
وقد أعقب ذلك إعلان المنطقة الحدودية الجنوبية منطقة معزولة بدعوى مكافحة الإرهاب.. لكن البعض تحدث عن قاعدة أمريكية جنوب تونس تحت غطاء مقاومة الإرهاب.
إذن.. فإن «حادثًا مفتعلاً» و«زيارة غامضة» و«قاعدة أمريكية».. هى سلسلة فى المؤامرة!
(٤)
ويميل أنصار «نظرية المؤامرة» إلى تفسير الأحداث فى سوريا على النحو التالى:
بدأت المظاهرات السورية شبيهة بمثيلاتها فى دول الربيع العربى.. لكن قوى إقليمية قامت بتشجيع كتائب من الجيش السورى على التمرّد العسكرى.. وإنشاء الجيش الحرّ. وكان ذلك بداية «المأساة السورية».
أعطت تركيا الملاذ للقوات العسكرية المنشقة.. فزادَ غليان الصراع، وارتفعت أعداد القتلى إلى أرقام مخيفة.
قالت واشنطن إنها ستدعم الجيش الحر.. وستضرب قوات الأسد، لكنها لم تفعل هذا ولا ذاك.. بل تركت سوريا لتنهى نفسها بنفسها. وحين تعقد الصراع.. قُدمت مبادرة الأمم المتحدة للسلام بقيادة «كوفى عنان».. مبادرة لوقف إطلاق النار.. تعقبها مرحلة انتقالية سياسية.. لكن الولايات المتحدة عارضت ذلك.
وحين وقعت أزمة الأسلحة الكيماوية، جرى التشكيك فى أن يكون الأسد وراء ذلك، وأشارت بعض الدوائر إلى أن واشنطن تعرف الحقيقة وربما كانت شريكة فيها.. ولكن الولايات المتحدة هددت بقصف جوى لسوريا.. ثم انتهى التهديد الأمريكى بعد اتفاق تسليم الأسلحة الكيماوية. وبناءً على الاتفاق، تخسر سوريا قوة الردع الأساسية لديها بعد أن سلمت ترسانتها (١٣٠٠) طن من الأسلحة الكيماوية.
وهكذا - طبقًا لهذا التحليل - فإن القضية برمتها ليست الثورة السورية، ولا الشعب السورى، ولا الديكتاتورية البعثية.. بل هى الأسلحة الكيماوية السورية التى تمثل تهديدًا لإسرائيل.
ولقد كان لافتًا أن بدأ الغرب يتحدث عن السلاح الكيماوى المصرى عقب الاتفاق السورى مباشرة.. وكأن الدور على مصر!
(٥)
وإذا كان هذا هو سياق «نظرية المؤامرة».. فإن هناك سياقات أخرى للتحليل.. ومن المؤكد أن جانبًا مما تحمله النظرية صحيح تمامًا.. لكن جانبًا آخر لا يمثل «مؤامرة مسبقة» بقدر ما يمثل «مؤامرة لاحقة».. أى عدم الإعداد المسبق للأحداث.. لكنه الاختراق اللاحق للأحداث ومحاولة التوجيه والاستفادة من نقاط الخَلَل ومواطن الوَهَن.
وفى بعض الحالات لا تكون نظرية المؤامرة.. «المسبقة أو اللاحقة».. هى الأفضل للتفسير، فقد يكون الإهمال وعدم الاكتراث من قِبَل القوى الكبرى وراء التدهور والانهيار.
ويذهب «جيفرى ساشيز»، مستشار الأمين العام للأمم المتحدة، إلى أن السياسة الأمريكية تجاه سوريا لا يحكمها أى ترتيب، وهى «بلا منطق».
(٦)
إنها «نظرية اللامبالاة» إذًا.. إلى جوار «نظرية المؤامرة».. ويمكننا الاجتهاد فى تعريف «نظرية اللامبالاة» فى كوْن الدول الكبرى تمارس السياسة غير الجادة.. وتمارس العداء المختلط بالعبث وعدم المسؤولية. وهى تنظر فى حساباتها إلى أن فشل سياستها لا يكلفها الكثير.. ومن ثم فلا مبرر لدراسة جدوى مُعمَّقة للسلوك السياسى أو العسكرى.
ويبدو الأمر أشبه برجل أعمال يمتلك مليار دولار، وأراد أن يستثمر مليونًا واحدًا من المليار فى شراء «سوبر ماركت».. إنه لن يلتفت بالطبع إلى تفاصيل الشراء، وربما لا يلتفت لعملية الشراء نفسها.. ثم إنه لن يعطى الكثير من الوقت لمشاعر القلق بشأن احتمالات فشل المشروع الجديد.
وتبدو الدول الكبرى فى بعض القرارات مع الدول الصغيرة والمتوسطة أقرب إلى ذلك.. فهى تمارس السياسة إزاءها بقدر عالٍ من عدم الاكتراث. وحين يشرح «هنرى كيسنجر» السبب فى كثافة النيران وقسوة الحرب فى فيتنام فإنه يقول بـ«لامبالاة»: «أردنا أن يشعروا بالألم.. ويتفاوضوا.. لكن ذلك لم يحدث.. فكان دمار فيتنام»!
وفى حالة الحرب على أفغانستان.. قامت الولايات المتحدة بإخراج أفغانستان من التاريخ ونسَفت البشر والحجر.. ثم بعد عقد كامل من الدمار عادت لتقول.. لا مانع من الحوار مع حركة طالبان!
وفى العراق، قامت الولايات المتحدة بغزو البلاد تحت دعاوى غير صحيحة.. تتعلق بحيازة أسلحة دمار شامل ودعم «صدام» للقاعدة.
وبعد أن خرج العراق هو الآخر من التاريخ.. قالت واشنطن: إن «صدام» لم يكن على صلة بالقاعدة.. ولم نجد أى أسلحة دمار شامل.. لقد كانت بعض تقاريرنا مغلوطة!.. وقالت صحيفة «نيويورك تايمز»: كنا نتصور أننا نحقق الديمقراطية فى العراق لكن يبدو أننا نرعى حربًا أهلية هناك!
لقد وصلت تلك «اللامبالاة» إلى عدم تقدير البيت الأبيض للمصلحة الأمريكية ذاتها، حيث قدرت الإدارة الأمريكية تكاليف حرب العراق بأنها لن تزيد على الـ (٥٠) مليار دولار، لكن التكلفة وصلت إلى ستة تريليونات دولار.. أى أن الخطأ فى التكلفة وصل إلى (١٢٠٠) ضعف التقدير.
وفى سوريا، قامت الولايات المتحدة بحضّ المعارضة على الثورة وإبلاغها دعمها سياسيًا وعسكريًا، وإعلانها ضرب قوات الأسد.. ولكنها عادت بعد أكثر من مائة ألف قتيل وتسعة ملايين من الجوعى والنازحين واللاجئين لتقول: إنها مسألة داخلية.. وسنعمل طبقًا لمصالح بلادنا!
هى «اللامبالاة» التى يجب البحث فى نماذجها وتطبيقاتها.. وهى بالنسبة للولايات المتحدة ليست بعيدة عن أيديولوجيا المغامرة وعدم التقدير التى تأسست عليها الدولة.
(٧)
لقد جاءت ثورات الربيع العربى تحمل إخلاص الثوار ونُبل المقاصد.. ثم جاءت عليها - وربما معها - سياسات المؤامرة.. وأضيفت إليها ما أسمِّيها: «نظرية اللامبالاة فى العلاقات الدولية».. وتعددت - على أثر ذلك - دوافع الخريف وموانع الربيع.
كم كانت ثورة ٣٠ يونيو عظيمة مجيدة.. أوقفت العبث.. وأعادت الدولة.. وبدلاً من «حافة الهاوية» جاءت «صناعة الأمل».
حفظ الله الجيش.. حفظ الله مصر

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق